
مع الوقت، صارت حكايا الجدات، أكثر واقعية واقترابا
زمنيا، حين بدأن يروين لنا حكايا حياة خبرنها. وصار الزمن يقع ضمن دائرة التصور، والشخصيات
ما زالت حيّة وتروي تاريخها. أسلوب حياة مختلف، حياة بدائية مقارنة لحياتنا في ذلك
الوقت. حدثني أبي عن جدته، وردّة فعلها، يوم أحضر الراديو، لأول مرة، الى البيت في
عكا.. صرخت به وطلبت منه إخراجه من البيت، لأنه مسكون بجنّي، لكنها سرعان ما اعتادته.
في كل مرة أسافر من مطار بيروت، يراودني مشهد صار
منسيا، ومن مخلفات الماضي، وأردد في داخلي، كان يا ما كان! كيف كان المطار يعج، ليس
بالمسافرين فقط، لكن بالمودعين والمستقبلين. فلكل مسافر قبيلة بأكملها حضرت لوداعه،
وبكاء الفراق، والتلويح بالمحارم، يوحي لك بوداع أخير ونهائي للمسافر، رغم أن السفر
يكون لبلدان الخليج العربي! ولكل قادم من السفر، قبيلة أخرى بانتظاره.. بالزغاريد والفرح.
المحارم تلوّح فرحة أو حزينة، وتتحول قاعة المطار الى لوحة سريالية، يتقاسمها الفرح
والحزن، ودموع الفرح والأسى. بعض المودّعين وبعض المستقبلين، يأتون في باصات صغيرة،
يحشرون فيها الأقارب والأصدقاء المقربين من الضيف.
يأتي الضيف في إجازة، لقضاء عطلته، بين أفراد عائلته، فيقضي الأيام الأولى
في استقبال الجيران والأقارب، مهنئين بسلامة الوصول. ثم يقضي الأيام الأخيرة، في استقبال
المودعين! اليوم لم نعد نشهد تلك الطقوس. وصارت الحياة أقل تعقيدا، وتحرر الناس، من
بعض القيود الاجتماعية.
كان الناس يودعون المسافر الى بلدان قريبة، بالنشيج
والبكاء، واليوم يودعونه الى المقلب الثاني من الأرض، بفرح وسعادة، وبفرج من رب العالمين،
الى حيث اللبن والعسل والأمان. فحلم الآباء
والأمهات، صار إبعاد الأبناء، ولو الى آخر المعمورة.
ومن المشاهد المنسية، والتي صارت جزءا من تاريخ
مضى، مشهد رجل، يأتي الى الحيّ في يوم محدد في الأسبوع، حاملا على كتفيه حقيبة جلدية
قديمة، تستقبله نسوة الحي. يفرد بضاعته من قطع قماش، الى المقصات، الخيطان، شفرات الحلاقة،
السكاكين.. وكل مستلزمات البيت، كانوا يسمّون تلك الحقيبة بتنافر محتوياتها،
"الكشّة"، ومن لا تجد طلبها، يمكنها عمل " طلبية "، فيحضرها في
المرة القادمة! كانت حقيبته، مثل مغارة علي بابا، في إثارة فضولنا، في استكشاف كنوزها..
وقد يكون صاحب الكشّة امرأة، لكن بحمولة أقل، إذ تكتفي ب " بقجة "، تحمل
فيها الأقمشة المتنوعة الألوان.. ولا بأس من الدفع بالتقسيط، وكانت تسمّى بـ
"اللفّاية"..
أذكر من طفولتي، في برج البراجنة، بائع الحليب،
"فوزي الحركة". يأتي كل صباح بسطل الحليب الطازج، فتستقبله أمي بآنية الطبخ،
لأن الحليب يجب أن يُغلى قبل الشرب. اليوم صار الحليب يباع جاهزا للشرب، في كرتونة
معقمة في الدكاكين..
تلك المشاهد، استغرقت وقتا طويلا، قبل أن تغور في
بئر النسيان. أما في يومنا هذا، فمشاهد الحياة لا تنتظر.. وهي في عجلة من أمرها، فلا
نكاد نعتاد على أمر، حتى نفاجأ بالجديد. التسارع التكنولوجي وتطوره، يشكّل حياتنا بحسب
مذاقه، وبدون استشارة منّا. ونتأقلم معه، خوفا من البقاء خارج الزمن. أقع أحيانا على
مقالات قديمة لي. كتبت بقلم الحبر، وأرسلت بالفاكس الى الجريدة، وغالبا ما أكتب تحت
مقالة قديمة، أعيد نشرها، أنها من زمن الفاكس، وكأنها منذ عقود طويلة. فالفاكس الذي
أثار دهشتنا، كحالة متطورة وحديثة.. لم يدم عزّه طويلا، بسبب التطور التكنولوجي الذي
يجعل من أحداث الشهر الماضي، ماضيا يستوجب منّا ترداد مقولة: كان يا ما كان!
التعليقات الخاصة بالموضوع :
0 التعليقات :